كتبهاالدكتورمولاي إسماعيل ولد الشريف ، في 5 أكتوبر 2010 الساعة: 21:08 م
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على القدوة ذي الخلق العظيم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن سلك نهجهم واتبع طريقهم إلى يوم الدين وبعد :
فإن دراسة التاريخ وسير الرسل والأنبياء والقدوات عامة – أولئك الذين كان لأعمارهم معنى ؛ وتفاعلوا مع الحياة تفاعلا إيجابيا فاستطاعوا أن يغيروا مجراها من حولهم من أجل أن تصبح حياة إسلامية وقادوا الناس إلى عبادة الله ، أو أثروا في الحياة تأثيرا إيجابيا على أقل تقدير – ضرورة للاعتبار والاتعاظ لما تمتعوا به من جدارة بالإمامة في الدين ، ولما في حياتهم من عبر وتثبيت للأفئدة ، قال تعالى : ( كلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين)[1] وذلك لأن النفوس البشرية تتشابه في مواقفها المتكررة رقم تباين الناس وتقادم العصور ، وتجدر الإشارة هنا إلى أن كل علم تسموا مكانته ويعلوا قدره على قدر تأسيه برسل الله عليهم الصلاة والسلام خاصةأولي العزم منهم الذين آخر هم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فكل علم من أمته إنما يرتشف من بحره ويقتبس من نوره ، ومن أولئك الأعلام الإمام أبو سعيد المعروف ب (سحنون) .
وقبل الوقوف مع ترجمته أذكر نفسي والقراء الكرام بأهم فوائد التراجم ، إضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه – كما أفهما-
إن أهم فوائد دراسة التراجم هي أنها :
1-تقوي في نفوسنا حب الانتماء لأمتنا الإسلامية ،وتزيد من ولائنا لها .
2-إنها تميط اللثام عن بعض أعلامنا مما يعزز من هويتنا الإسلامية العالمية ويظهر سبقنا في أمور كثيرة ، وفي ذلك رد على دعوى العولمة الغربية وأعلامها ونجومها الآفلة .
3-إن تعدد تلك النماذج وأولئك الأعلام – رغم اختلاف الأزمنة والأمكنة عبر مسيرتنا التاريخية الممتدة – يعطينا الثقة بإمكان تمثل نهجهم الصالح وإحيائه في حياتنا الحاضرة والمستقبلية بثقة واطمئنان ، وفي ذلك عز ونصر.
أما عالمنا فهو : عبد السلام أبو سعيد سحنون بن سعيد بن حبيب التنوخي الحمصي ، وسمي بسحنون لحدته في مسائل العلم .
ولد أبو سعيد بحمص عام ستين ومائتين(160هـ)وذهب مع أبيه إلى الأندلس ، ثم انتقل بعد ذلك إلى القيروان حين كانت أمتنا واحدة جغرافيا وسياسيا كما أرادها الله شرعا .
عصره:
نشأ أبو سعيد – رحمه الله – في ظل دولة بني العباس أيام ازدهارها وقوتها ، فرايات الجهاد ترفرف عالية في كل مكان ، والدين عزيز، والعلماء مكرمون ومشاركون في حياة الناس ومنهم القادة الميدانيون أمثال أسد بن الفرات ، والقضاة العادلون ، والعلماء الربانيون ، وقلما تجد واحدا منهم إلا وله مشاركاته وتأثيره المباشر في الناس ، والمسلمون يتنقلون من أطراف دولتهم الإسلامية الكبيرة إلى أطرافها وينتقلون من موقع إلى موقع في الجهاد وطلب العلم والتجارة ، كما ينتقل أحدنا في دويلته الأممية اليوم![2] رغم القيود والتحفظات والبون الشاسع.
طلبه للعلم:
بدأ سحنون في طلب العلم بالقيروان على مشايخها ثم رحل في طلب العلم داخل إفريقيا وكتب فيه بهلول إلى على بن زياد يقول له : إن سحنون ممن يطلب العلم لله ، فسأل عنه ابن زياد وأتاه في موضعه وأقرأه الموطأ ، وقال له : أعلمني بهلول أنك ممن يطلب العلم لله .
ثم رحل إلى مصر ، وقال سحنون : كنت عند ابن القاسم وجوابات مالك ترد عليه ، فقيل له : ما يمنعك من السماع من مالك ؟ قال :قلة الدراهم ، وقال مرة : لحى الله الفقر لولاه لأدركت مالكا .
المهم أنه سمع من كبار أصحاب مالك كابن القاسم وابن وهب وابن الماشجون ومطرف وغيرهم ، ورحل في طلب العلم إلى مصر والحجاز والشام.
وخرج من مصر إلى الحجاز حاجا مع ابن القاسم وابن وهب وأشهب ، وكان يزامل ابن وهب ، ومع ابن القاسم ابنه ،ومع أشهب يتيمه ، وكانوا يسيرون في النهار ويتدارسون العلم، فإذا جاء الليل قام كل إلى حزبه ، وكان ابن وهب يقول : ألا ترون هذا المغربي يلقى بالنهار المسائل ولا يسأل بالليل ، فيقول له ابن القاسم : هو نور يجعله الله في القلوب .
قال محمد بن حارث : كانت إفريقيا قبل رحلة سحنون قد عمرها مذهب مالك بن أنس لأنه رحل إليها أكثر من ثلاثين رجلا كلهم لقي مالك بن أنس وسمع منه – لكن الفقه و الفتيا إنما كان في قليل منهم ،كما هو الحال في علماء سائر البلاد- ثم قدم سحنون بذلك المذهب ، واجتمع له فضل الدين والعقل والورع والعفاف والانقباض ، فبارك الله فيه للمسلمين فمالت إليه الوجوه وأحبته القلوب وصار زمانه كأنه مبتدأ قد محي ما قبله ، وكان أصحابه سراج أهل القيروان .
أهم صفاته :
كان سحنون ثقة ورعا عالما منفقا كثير الصمت لا يخاف في الله لومة لائم .
وكان ربع القامة بين البياض والسمرة ، حسن اللحية ، كثير الشعر ، أعين ، بعيد ما بين المنكبين ، كثير الصمت ، قليل الكلام ، وإذا تكلم تكلم بحكمة ، مهيبا ، حسن اللباس ، يأخذ من شاربه ، قال عيسى : كان صمت سحنون لله وكلامه لله، إذا أعجبه الكلام صمت وإذا أعجبه الصمت تكلم .
قال بعضهم : دخلت على الملوك وكلمتهم فما رأيت أحدا أهيب في قلبي من سحنون .
حكمته وعقله :
قال سعيد بن الحارث : كان أبو سعيد عاقلا بمرة ورعا بمرة عالما بمذهب أهل المدينة بمرة ، وقال : ما رأيت أجود قريحة من سحنون .
وقال غيره : كان سحنون أعقل الناس صاحبا ، وأفضل الناس صاحبا ، وأفقه الناس صاحبا .
وقال سحنون : ترك دانق مما حرم الله أفضل من سبعين ألف حجة ، وكان يقول : مثل العلم القليل في الرجل الصالح مثل العين العذبة في الأرض العذبة يزرع عليها صاحبها فينتفع بها .
ومن حكمه : كل دابة تعمل على الشبع إلا ابن آدم إذا شبع رقد .
ومنها قوله : من لم يعمل بعلمه لم ينفعه علمه .
وكان ينشد :
لمنزلة الفقيه من السفيه كمنزلة السفيه مـن الفقيه
فهذا زاهد في رأي هذا وهـذا فيه أزهد منه فيـه
قضاؤه:
لم يكن سحنون يريد القضاء أو يحرص عليه ، بل إنه لما طلب منه أن يتولاه امتنع تورعا ، ثم قبل بعد إلحاح _مع خوفه منه- لما يرجو أن يحقق من عدل وإنصاف بين الناس ، في يوم توليه للقضاء دخل على ابنته وقال : اليوم ذبح أبوك بغير سكين . وجاءه عون بن يوسف وقال له : نهنئك أو نعزيك ؟فسكت عنه قليلا ثم قال :إنه بلغني أنه من أتاها من غير مسألة أعين عليها ومن أتاها عن مسألة لم يعن عليها .
ثم اشترط أن لا يأخذ رزقا ولا صلة من سلطان في قضائه وأن يعان في عمله ، ومع أنه لم يكن يأخذ لنفسه شيئا إلا أنه كان يأخذ لأعوانه وكتابه وقضاته من جزية أهل الكتاب.
وبنى له بيتا خاصا للقضاء بمعزل عن لغط الناس لا يدخله عليه إلا أصحاب الدعاوى والشهود .
وكان يكتب أسماء الخصوم مرتبة حسب مجيئهم ولا يقدم إلا الملهوف أو المضطر، وكان إذا دخل عليه الشاهد وخاف منه أعرض عنه حتى يستأنس ويذهب روعه ، فإن طال ذلك به هون عليه وقال له : ليس معي سوط ولا عصا فلا عليك بأس ، أد ما علمت ودع ما لم تعلم .
وكان أول ما نظر فيه بعد توليه القضاء أحوال الأسواق ، وكانت قبله من اختصاص الولاة دون القضاة فجعل يؤدب الغاش وينفيه من السوق ، كما فرق حلق أهل البدع وشرد أهل الأهواء .
وكان يعين الأئمة للصلاة بالناس وكان ذلك فبله للأمراء والولاة .
وكان يؤدب الناس على الأيمان التي لا تجوز في الطلاق والعتاق حتى لا يحلفوا بغير الله ، كما يؤدبهم في لباسهم وعلى ارتكاب ما نهي عنه ،ويأمرهم بحسن السيرة ، ومن جار من الخصوم في خصومته ، وطالب بما لا يعنيه أدبه وقال له : نحن نهتم بذلك أكثر منك .
وذات مرة أدب امرأة قيل إنها تجمع بين الرجال والنساء فقيدها ، ثم بنى باب دارها ، وأسكنها بين قوم صالحين .
موقفه من الحكام :
كان –رحمه الله – يقول : والله لقد ابتليت بهذا القضاء وبهم – يعني الحكام والسلاطين-
ولله ما أكلت لهم لقمة ولا شربت لهم شربة ، ولا لبست لهم ثوبا ، ولا ركبت لهم دابة ، وما أخذت لهم صلة ، وإني لأدخل عليهم بالتشديد وما عليه العمل[3] وفيه النجاة ثم أخرج عنهم.
ولم يكن يهابهم في الحق بل يقيم الحق عليهم كما يقيمه على غيرهم وذات مرة وجه إليه الأمير يطلب منه التخفيف على الناس – حسب زعمه– وذلك لأنه أكثر من رد مظالم الملأ وعلية القوم ولم يرض منهم التوكيل في الخصومات بل كان يطلب حضورهم لمجلس القضاء فشق ذلك عليهم ، فشكوه إلى ابن الأغلب فأرسل إليه في تذلك فقال لرسوله : ليس هذا الذي بيني وبينه ، قل له : خذلتني خذلك الله .
وكان يقول : ما أقبح بالعالم أن يؤتى إلى مجلسه فلا يوجد فيه ؛ فيسأل عنه ؛ فيقال : هو عند الأمير ، هو عند الوزير ، هو عند القاضي ، فإن هذا وشبهه أشر من علماء بني إسرائيل .
وكان من تلك المظالم أن حاتم الجراوي _أحد القادة – أتى بسبي من الحرائر فأرسل سحنون بعض رجاله المحتسبين لتخليصهن ففعلوا وهرب حاتم فخرق ثيابه ودخل على الأمير شاكيا ، فطلب الأمير من سحنون أن يردهن على حاتم فأبى وأخبره أن هن حرائر لا يجوز سبيهن ،وقال للرسول :قل للأمير جعل الله حاتما شفيعك يوم القيامة ، وأقسم عليه ليبلغ ذلك إلى الأمير ، ولم يكتف سحنون بذلك بل قام بالقبض على حاتم هذا وحبسه .
محنته:
خرج سحنون يوما في جنازة فتقدم ابن أبي الجواد فصلى عليها – وكان ممن يقول بخلق القرآن – فرجع سحنون ولم يصل عليها فبلغ ذلك الأمير زيادة الله فوجه إلى عامل القيروان بضرب سحنون خمسمائة سوط وحلق رأسه ولحيته ، فبلغ ذلك وزيره علي بن حميد ، فحبس البريد وذهب إليه في القائلة وقال له : ما شيئ بلغني ؟ ثم قال له : لا تفعل . إن العكي إنما هلك في ضربه للبهلول بن راشد وهذا مثل بهلول . قال الأمير :نعم ، ثم أخبره بحبسه للبريد فشكره على ذلك ، ثم وصل الخبر إلى سحنون ، وطلب الناس منه أن يشكر الأمير على تراجعه عما هم به فقال : لا والله لا أشكر غير الله ،ثم قال : أنا لم أبلغ مبلغ من ضرب إنما يضرب أمثال مالك وابن المسيب .
ولما ولي الإمارة أحمد بن الأغلب -وكان يقول بخلق القرآن -امتحن سحنون في هذه المسألة فقال : أما شيء أبتديه في نفسي فلا ؛ ولكني سمعت من تعلمت منهم وأخذت عنهم كلهم يقول : القرآن كلام الله غير مخلوق .
قال ابن الجواد : كفى فاقتله ودمه في عنقي ، وقال غيره مثله ، وقال بعضهم : يقطع أرباعا ويجعل كل ربع في موضع من المدينة ويقال : هذا جزاء من لم يقل بكذا وكذا .
إلا أن سحنون كان واثقا من نصر الله ، وكان يقول في نفسه :
( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)[4] فصرف الله كيدهم عنه ، ورضوا منه بترك القضاء ولزوم داره فقبل ذلك ، وكان يقول لمن يتعاظم أهل البدع : أما علمت أن الله إذا أراد قطع بدعة أظهرها .
من ثناء العلماء عليه :
سئل أشهب : من قدم عليكم من المغرب ؟ قال : سحنون ، قيل : فأسد ، قال : سحنون والله أفقه منه بتسع وتسعين مرة .
وحثه ابن القاسم على أن يقيم عنده ويطلب العلم ويدع الخورج إلى الغزو، وقال : إن العلم أولى به وأكثر ثوابا له .
وقال محمد بن حارث إنه جمع فضل الدين والعقل والورع والعفاف والانقباض والعلم ، وتقدم قول البهلول : إنه ممن يطلب العلم لله، وقال عيسى بن مسكين : سحنون راهب هذه الأمة .
وقال علي البصري : سحنون فقيه أهل زمانه وشيخ عصره وإمام وقته . وقال محمد بن أحمد بن تميم : كان سحنون ثقة حافظا للعلم فقيه البدن ، اجتمعت فيه خلال قلما اجتمعت في غيره : الفقه البارع ،والورع الصادق ، والصرامة في الحق ،و الزهادة في الدنيا ، والتخشن في الملبس والمطعم، والسماحة ، وكان لا يقبل من السلاطين شيئا ، ورما وصل أصحابه بالثلاثين دينارا أو نحوها .
وقال أبو بكر المالكي : وكان مع هذا رقيق القلب غزير الدمعة ظاهر الخشوع ، متواضعا ، قليل التصنع، كريم الأخلاق ، حسن الأدب ، سالم الصدر ، شديدا على أهل البدع لا يخاف في الله لومة لائم ، انتشرت إمامته في المشرق والمغرب ،وسلم له الإمامة أهل عصره ، واجتمعوا على فضله وتقديمه ومناقبه كثيرة .
فقه وفتواه:
إن العلم كما قال الإمام مالك وابن القاسم – رحمهما الله – نور يقذفه الله في القلوب ، فهو في الأساس هبة ومنة من الله تعالى ، ومن أهم ما يعين عليه -بفضل الله -هو التقوى ودوام التعلم وقد وأنعم الله على سحنون بما فتح عليه من ذلك حتى سمي بهذا الاسم إضافة إلى الرغبة الشديدة في الحفظ والتعلم ، حتى قال سحنون عن نفسه : إني حفظت هذه الكتب حتى صارت في صدري كأم القرآن ، وقال إني لأسأل عن المسألة فأعرف في أي كتاب وفي أي ورقة وصفحة وسطر ، فما يمنعني عن الجواب فيها إلا كراهية الجرأة ، وكان يقول : أجرأ الناس على الفتيا أقلهم علما .
قال عيسى : قلت لسحنون : تأتيك المسائل مشهورة مفهومة فتأبى الجواب فيها .فقال : سرعة الجواب بالصواب أشد من فتنة المال .
وقال أبو علي البصري : سحنون فقيه أهل زمانه وشيخ عصره وعالم وقته .
ومن فقهه وورعه أنه كان لا يشرب من قناطر السلاطين ، ويفتي الناس بجواز الشرب منها ، ويقول : إنما هي حجارة جمعوها ساق الله إليها الماء .
وكان له جار يشرب ويغني فصبر عليه – رجاء توبته – وسمعه ابن وضاح ، فلما ذهب إلى الأندلس ابتلي بجار مثله فهم أن يبلغ عنه فتذكر جار سحنون وموقفه وصبره عليه فصبر على جاره وبعد ما قدم القيروان سأل سحنون عن جاره فقال : لقد كفانيه الفقر وهاهو مؤذن في المسجد .
ماله وتصدقه :
قال ابن العنبري : كانت غلة زيتون سحنون خمسمائة دينار في السنة ، فما تنقضي السنة إلا والديون عليه لكثرة صدقته ومعروفه .
وقال عبد الله بن سعيد الصائغ : دفع سحنون يوما لرجل صرة دنانير وهو في بيته ثم قال له : اذهب فأول من تلقاه ادفعها إليه .
وقال حمديس : دخلت عليه يوما وهو يأكل خبزا يبله في الماء ويغطسه في الملح ، فقال : أما إني لم آكله زهادة في الدنيا ولكن لئلا احتاج إلى هؤلاء فأهون عليهم ، ثم صاح بجارية فأتت بصرة فيها عشرون دينارا ، فقال :ادفعه لثلاثة رجال صالحين ممن يسكن عندكم فإن لم تجد ثلاثة فإلى اثنين فإن لم تجد فإلى واحد .
وقال حمديس : ماتت لأبي خادم ثمنها ثمانية وعشرون دينارا فعرض علي سحنون ثمنها لاشتري لأبي منه خادما ، فقلت أنا عن هذا غني .
وفاته-رحمه الله- :
توفي أبو سعيد سحنون بالقيروان سنة أربعين ومائتين(240هـ) ، قال أبو الأحوص المتعبد : رأيت سحنون في المنام وقد تهيأ للخروج إلى الصلاة مع ابنه محمد فأتيته بثوب أبيض ، فقال لي : أما علمت أنا لا نقبل الهدية ، فقلت : ليست بهدية ، لكن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أدفعه إليك ، قال لي : أين رسول الله ؟ فقلت له: هاهنا حابس ، فما قام سحنون إلا يسيرا حتى مات ، و رأيت له مراء غيرها ، ولما توفي حزن عليه الناس ورثاء الشعراء فقال فيه عبد الملك بن قطر قصية أولها :
من يبصر البرق فوق الأفق قد لمعا لما تسربل ثوب الليل وادرعا
ولى لعمري بأرض الغرب قاطبـة ميت له البدووالحضارقدخشعا
ثم يقول:
هناك برزت يـاسحنون منفــردا كسابق الخيل لما بان فانقطعـا
فاذهب فقيدا حباك الله جنتــــه واحصدمن الخيرماقدكنت مزدرعا
الخاتمة:
إن سحنون واحد من نماذج الأسوة والاقتداء وأمثاله كثيرة ، مما يجعلها جديرة بالعناية والجمع ،خاصة في هذا المرحلة من تاريخ أمتنا التي يراد لها فيه أن تعلي من شأن حثالات (هوليود)وما يسمى بنجوم التمثيل والغناء واللعب والخنا ونحو ذلك من كل هابط منحدر، مما يجعل استطلاعا للرأي في مدرسة من مدارس العالم الإسلامي[5] تكون نتيجته أن 67%من طلاب هذا الفصل لايعرفون شيئا عن خالد بن الوليد سيف الله المسلول ولا عن قاهر الصليبين صلاح الدين الأيوبي مع شهرتهما ، بينما يعرفون معلومات دقيقة واسعة عن حثالات الأفلام والمسارح والمراقص والملاعب التي تقدم باسم الأبطال والنجوم!! .
كل ذلك يجعلنا في حاجة ماسة إلى المزيد من دراسة ديننا الإسلامي وتاريخه وأعلامه وجمع تراجمهم وتبسيطها ونشرها بين أبنائنا وأهلنا لعلنا نسهم بذلك في رد تلك الهجمة العنيفة الموجهة إلى ديننا وثوابتنا وماضينا وحاضرنا ومستقبلنا كذلك بوسائل كثيرة متنوعة .
وأخيرا ألخص أهم جوانب الإقتداء البارزة في شخصية الإمام سحنون –كما أراها –
في النقاط التالية :
1-إتقانه للعلم وحرصه عليه .
2- لزوم التقوى والورع .
3-العفة وعزة النفس .
4-سلامة الصدر،وتحمل هم المسلمين .
5-الاتباع وكراهية الابتداع والشاذ من العلم .
6-الكرم والبذل .
7- الحرص على الكسب الحلال من أجل الاستغناء عن الناس .
8-إلزامه نفسه المشقة وأخذه الناس بالرفق واليسر.
9-كراهية التسرع في الفتوى.
10-طول الصمت ومحاسبة النفس قبل الكلام .
11-البعد عن السلاطين وعدم قبول هداياهم وأعطياتهم.
12 -الصدع بالحق .
13-توريث الأدب والأخلاق لجلسائه وتلاميذه وأهله حتى وصفوا بأنهم مصابيح القيروان .
14-إخفاؤه لنوافل العبادات إذ لم ير مصليا لنفل في المسجد .
وبكل تلك الصفات نال سحنون –كما أحسبه ولا أزكي على الله أحدا- رضا الله فرضي عنه الناس وأحبوه وهابوه ، وكما قيل : فإن هيبة المرء على قدر هيبته لله .
فرحم الله أبا سعيد سحنون بن سعيد بن حبيب التنوخي وجعلنا وإياه أئمة في الدين نقتدي بمن قبلنا فيه ويقتدي بنا من بعدنا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم واقتدى بهم إلى يوم الدين .
كتبه
أبو أحمد
في مكة المكرمة
في 14/4/1421هـ
راجع ترجمة سحنون في المراجع التالية :
1-ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض اليحصبي 1/339-363.
2-الديباج ص 161.
3-وفيات الأعيان لابن خلكان 3/180-182.
4-تخريج الأحاديث النبوية الواردة في مدونة الإمام مالك تأليف الدكتور الطاهر محمد الدرديري 1/196-212.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة هود - عليه السلام- الآية 120 .
[2] التي تستمد الاعتراف بها من منظمة الأمم المتحدة، واتفاقيات سايس وبيكو!
[3] أي أنه لا يفتيهم بالرخص بل بواضح المسائل التي جرى عليها العمل .
[4] سورة آل عمران الآية 173.
[5] كما في كتابوقفات تربوية من إصدارات مركز الطوير الفكري .